هل يقع الاحتلام من الأنبياء عليهم السلام ؟

 



الحمد لله.

اختلف في هذه المسألة أهل العلم على ثلاثة أقوال :

القول الأول : لا يجوز وقوع الاحتلام من الأنبياء عليهم السلام .

قال ابن الملقن رحمه الله :

" والأشهر امتناع الاحتلام عليهم كما قاله في " الروضة ". " انتهى.

" غاية السول في خصائص الرسول " (ص/74)

وقد عقد السيوطي رحمه الله لذلك بابا قال فيه :

" باب الآية في حفظه صلى الله عليه وسلم من الاحتلام " انتهى.

" الخصائص الكبرى " (1/120)

بل إن السيوطي رحمه الله لم يستبعد أن يكون عدم الاحتلام من خصائص أزواجه أيضا عليه الصلاة والسلام ، فقال رحمه الله :

" وأي مانع من أن يكون ذلك خصيصة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : أنهن لا يحتلمن ، كما أن من خصائص الأنبياء عليهم السلام أنهم لا يحتلمون ؛ لأن الاحتلام من الشيطان ، فلم يسلط عليهم ، وكذلك لم يسلط على أزواجه تكريما له " انتهى.

" تنوير الحوالك " (1/67)

واستدلوا على ذلك بأدلة :

الدليل الأول : حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ وَالْحُلُمُ مِنْ الشَّيْطَانِ ) رواه البخاري (رقم/3292) ومسلم (رقم/2261)

قالوا : فلما كان الاحتلام من الشيطان ، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشيطان ، كان الاحتلام غير جائز في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

الدليل الثاني : حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ) رواه مسلم (رقم/1109)

قال القرطبي رحمه الله :

" في هذا فائدتان :

إحداهما : أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز .

الثاني : أن ذلك كان من جماع ، لا من احتلام ؛ لأنه كان لا يحتلم ، إذ الاحتلام من الشيطان ، وهو معصوم منه " انتهى.

نقلا عن " فتح الباري " لابن حجر (4/144)

الدليل الثالث : قول ابن عباس رضي الله عنهما :

( ما احتلم نبي قط ، إنما الاحتلام من الشيطان )

رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (11/225)، وابن عدي في " الكامل " (3/92-93) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس .

وهذا إسناد ضعيف بسبب إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ، قال ابن معين : ليس بشيء . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال الدارقطني : متروك . وقال ابن حبان : كان يقلب الأسانيد ، ويرفع المراسيل . انظر : " تهذيب التهذيب " (1/104)

ولذلك ضعفه ابن عدي بعد روايته له .

وحكم الشيخ الألباني على هذا الإسناد بقوله :

" باطل " انتهى.

" السلسلة الضعيفة " (رقم/1432)

ورواه الدينوري في " المجالسة " (6/166) من طريق معلى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، به .

وهذا إسناد باطل أيضا ، بسبب المعلى بن هلال بن سويد ، رماه السفيانان بالكذب . وقال ابن المبارك وابن المدينى : كان يضع الحديث . وقال ابن معين : هو من المعروفين بالكذب والوضع . وقال أحمد : كل أحاديثه موضوعة. انظر: " ميزان الاعتدال " (4/152)

يقول الآمدي في تفسير هذا الأثر :

" يعني ما تشكل له الشيطان في المنام على الوجه الذي يتشكل لأهل الاحتلام " انتهى.

" الإحكام في أصول الأحكام " (3/140)

القول الثاني : يجوز وقوع الاحتلام من الأنبياء عليهم السلام ، وقد ذهب إليه بعض أهل العلم فيما حكاه بعض العلماء من غير ذكر اسم واحد منهم .

واستدلوا بالدليل السابق في حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ ) رواه مسلم (رقم/1109)

يقول ابن حجر رحمه الله :

" قال غيره – يعني غير القرطبي - : في قولها : ( من غير احتلام ) إشارة إلى جواز الاحتلام عليه ، وإلا لما كان للاستثناء معنى .

ورُدَّ بأن الاحتلام من الشيطان ، وهو معصوم منه .

وأجيب : بأن الاحتلام يطلق على الإنزال ، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام " انتهى.

" فتح الباري " (4/144) .

 

القول الثالث : التفصيل ، فإن أريد بالاحتلام خروج المني على وجه دفع ما يفيض في جسده الشريف صلى الله عليه وسلم : فهذا جائز ، وإن لم يرد دليل خاص بوقوعه .

وإن أريد بالاحتلام ما يكون في المنام من تلاعب الشيطان بالإنسان ، ثم يعقبه خروج للمني : فهذا لا يقع له صلى الله عليه وسلم ، لعصمته من الشيطان .

قال ابن كثير رحمه الله :

" الأظهر في هذا التفصيل ، وهو أن يقال :

إن أريد بالاحتلام : فيض من البدن : فلا مانع من هذا .

وإن أريد به : ما يحصل من تخبط الشيطان : فهو معصوم من ذلك صلى الله عليه وسلم .

ولهذا لا يجوز عليه الجنون ، ويجوز عليه الإغماء ، بل قد أغمي عليه في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها في الصحيح ، وفيه أنه اغتسل من الإغماء غير مرة ، والحديث مشهور " انتهى.

" الفصول في سيرة الرسول " (ص/302) مؤسسة علوم القرآن – مكتبة دار التراث.

وسئل الإمام شمس الدين الرملي ـ الشافعي ـ رحمه الله :

" ( سُئِلَ ) عَمَّنْ قَالَ إنَّ الِاحْتِلَامَ إنْ كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبِ بَرْدٍ أَوْ ضَعْفٍ فَيَجُوزُ هُوَ مُصِيبٌ أَوْ لَا ؟ "

( فَأَجَابَ ) بِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الْأَئِمَّةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاحْتِلَامُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُمْ مَعْصُومُونَ . ا هـ .

وَحَقِيقَةُ الِاحْتِلَامِ نُزُولُ الْمَنِيِّ فِي النَّوْمِ فَأَفَادَ تَعْلِيلُهُمْ أَنَّ خُرُوجَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ الشَّيْطَانَ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ صُدُورُهُ مِنْهُمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَحِينَئِذٍ فَالْقَائِلُ مُصِيبٌ " انتهى .

"فتاوى الرملي" ـ بهامش فتاوى ابن حجر الهيتمي" (4/334) .

ولعل هذا القول الثالث هو القول الوسط الذي تجتمع فيه الأدلة .

والله أعلم .

تعليقات