الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه
أما بعد: فالكذب حرام، ولا يرخص في الكذب إلا
لضرورة أو حاجة، ويجب أن يكون ذلك في أضيق الحدود، بحيث لا توجد وسيلة أخرى مشروعة
تحقق الغرض، ومن الوسائل المشروعة التي تحقق الغرض دون وقوع في الكذب: ما يسمى بالمعاريض،
حيث تستعمل كلمة تحتمل معنيين، يحتاج الإنسان أن يقولها، فيقولها قاصدا بها معنى صحيحا،
بينما يفهم المستمع معنى آخر. ومن ذلك أن تقولي عن أبيك إنه غير موجود، وتقصدين أنه
غير موجود أمامك أو في غرفتك ونحو ذلك.
وقد رأى بعض العلماء
الاقتصار في جواز الكذب على ما ورد به النص في الحديث، ولكن جوزه المحققون في كل ما
فيه مصلحة دون مضرة للغير
يقول ابن الجوزي
ما نصه: وضابطه أن كل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب، فهو مباح إن كان
المقصود مباحا، وإن كان واجبا، فهو واجب.
وقال ابن القيم
في "زاد المعاد" ج 2 ص 145: يجوز كذب الإنسان على نفسه، وعلى غيره إذا لم
يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يتوصل بالكذب إلى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المشركين
حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت بالمسلمين من ذلك الكذب، وأما ما نال من بمكة
من المسلمين من الأذى والحزن، فمفسدة يسيرة في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب.
روى مسلم
(2605) عن أُمّ كُلْثُومٍ بِنْت عُقْبَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ : ( لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ
بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا ) قَالَ ابْنُ شِهَابٍ – أحد
رواة الحديث - : " وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ
كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ : الْحَرْبُ وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ
امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا ) .
وقد رواه الإمام أحمد (26731) عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ : ( مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَذِبِ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ : الرَّجُلِ يَقُولُ الْقَوْلَ يُرِيدُ بِهِ الْإِصْلَاحَ ، وَالرَّجُلِ يَقُولُ الْقَوْلَ فِي الْحَرْبِ ، وَالرَّجُلِ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةِ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا ) . صححه الألباني في "الصحيحة" (545) .
وحديث أم كلثوم
بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لَيْسَ الْكَذَّابُ
الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِي خَيْرًا) رواه مسلم
(2605) .
وقول علي بن أبي
طالب رضي الله عنه : (إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا
حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ) رواه البخاري
(3611) ومسلم (1066) .
فإنما وقعت الرخصة
في هذه الثلاث وما كان في معناها ، وما عدا ذلك لم يرخص فيه الشارع فيبقى على المنع
منه .
واستنبط العلماء
من الأدلة السابقة ـ وغيرها ـ بعض الأحكام ، منها :
1- الكذب ليس محرماً
لذاته ، بل لما يترتب عليه من المفاسد .
2- إذا كان الكذب
سيؤدي إلى دفع مفسدة أعظم ، أو جلب مصلحة أكبر : صار جائزاً حينئذ .
وينبغي عدم التهاون
في شأن الكذب مع دعوى أنه لدفع مفسدة ، بل لا بد من الموازنة الصحيحة ، بين المصالح
والمفاسد .
3- من استطاع أن
يستغني عن الكذب باستعمال التورية والمعاريض : فلا شك أنه أولى وأفضل ، فقد قال عمر
بن الخطاب رضي الله عنه : (إن في معاريض الكلام ما يغني الرجل عن الكذب) رواه البيهقي
في " السنن الكبرى " (10/199) .
ومعنى المعاريض
: أي الكلام الذي يظنه السامع شيئاً ويقصد المتكلم شيئاً آخر .
وهذه أقوال لبعض
العلماء في تقرير هذه الأحكام .
قال أبو حامد الغزالي
رحمه الله :
" اعلم أن
الكذب ليس حراماً لعينه ، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره ، فإن أقلَّ
درجاته أن يعتقد المخبَر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً ، وقد يتعلق به ضرر
غيره .
ورب جهل فيه منفعة
ومصلحة ، فالكذب محصل لذلك الجهل ، فيكون مأذوناً فيه ، وربما كان واجباً .
فنقول : الكلام
وسيلة إلى المقاصد :
1- فكل مقصود محمود
يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً : فالكذب فيه حرام .
2- وإن أمكن التوصل
إليه بالكذب دون الصدق : فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً .
3- وواجب إن كان
المقصود واجباً ، كما أن عصمة دم المسلم واجبة ، فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم
قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب ، ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين
أو استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب : فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما
أمكن ؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه ، وإلى
ما لا يقتصر على حد الضرورة ، فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة .
فهذه الثلاث ورد
فيها صريح الاستثناء ، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره .
كما لو أراد أن
يصلح بين اثنين ، وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه ،
وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييبا لقلبها ،
أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به .
ولكن الحد فيه
أن الكذب محذور ، ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور ، فينبغي أن يقابل أحدهما
بالآخر ، ويزن بالميزان القسط .
فإذا علم أن المحذور
الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب ، وإن كان ذلك المقصود أهون
من مقصود الصدق فيجب الصدق ، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما ، وعند ذلك الميل
إلى الصدق أولى ؛ لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة ، فإن شك في كون الحاجة مهمة
فالأصل التحريم ، فيرجع إليه .
ولأجل غموض إدراك
مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه ، وكذلك مهما كانت الحاجة
له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب ، فأما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة
لحق الغير والإضرار به ، وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ، ثم هو لزيادات المال
والجاه ، ولأمور ليس فواتها محذوراً ، حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب
لأجل مراغمة الضرات ، وذلك حرام .
وقالت أسماء :
سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إن لي ضرة ، وإني أتكثر من زوجي
بما لم يفعل ، أضارها بذلك ، فهل علي شيء فيه ؟
فقال صلى الله
عليه وسلم : (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه .
وكل من أتى بكذبة
فقد وقع في خطر الاجتهاد ، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من
الصدق أم لا ، وذلك غامض جدا ، والحزم تركه ، إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه
، كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان .
وقد نقل عن السلف
أن في المعاريض مندوحة عن الكذب ، قال عمر رضي الله عنه : أما في المعاريض ما يكفي
الرجل عن الكذب . وروي ذلك عن ابن عباس وغيره .
وإنما أرادوا بذلك
إذا اضطر الإنسان إلى الكذب ، فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح
جميعاً ، ولكن التعريض أهون" انتهى باختصار من "إحياء علوم الدين الغزالي"
(3/136-139) .
وقال العز بن عبد
السلام رحمه الله :
"الكذب مفسدة
محرمة إلا أن يكون فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة , فيجوز تارة ويجب أخرى ، وله أمثلة
:
أحدها : أن يكذب
لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز .
وكذلك الكذب للإصلاح
بين الناس وهو أولى بالجواز لعموم مصلحته...- ثم ذكر صوراً أخرى يجوز فيها الكذب ثم
قال :–
التحقيق في هذه
الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذوناً فيه" انتهى من " قواعد الأحكام
" (ص/112) .
وقال ابن حزم رحمه
الله :
" ليس كل
كذب معصية ، بل منه ما يكون طاعة لله عز وجل وفرضاً واجباً يعصي من تركه ، صح أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً) ، وقد
أباح عليه السلام كذب الرجل لامرأته فيما يستجلب به مودتها ، وكذلك الكذب في الحرب
.
ثم نقل الإجماع
على أن المسلم يجب عليه أن يكذب إذا سأله سلطان ظالم عن مكان مسلم ليقتله ظلماً ، وأنه
إن صدقه وأخبره بموضعه كان فاسقاً عاصياً" انتهى من " الفصل في الملل
" (4/5) .
تعليقات
إرسال تعليق